عينٌ على الواقع
قصة/ بقلم قصيّ الطُبَل
إنها أشجان تتخبط في زواية القلب والعقل، فتارةٌ تُنشدُ فِكراً وتارةً أخرى تعزفُ ألماً.
أنا مازن وهذه قصة حياتي التي دامت ثلاثون يوماً فقط، ألخصها لكم ببضع سطور
الساعة العاشرة صباحاً
من السابع من أكتوبر ، مغمض العينين في فراشي مبتسمٌ لسماعي أصوات المظلات الشراعية؛ ظناً مني أنه حلمٌ يراودني،
لكني لا أرى في خلد نومي شيءٌ يدلني لذلك الصوت، أفتح عيناي لأناظر النافذة وإذ بالصوت قادمٌ من الواقع!!
أنهض بسرعةٍ متوجهاً للنافذة، كيف هذا إن الحصار يمنع علينا الطيران بهذه المظلات؟!
أفرك عيناي جيداً لأتأكد من أني لا أتوهم المشهد، لكنه فعلاً حقيقة!!
أخرج من غرفتي منادياً:
_ بابا، بابا!! أين أنت؟
_ نعم يامازن ماذا هناك؟ دعني أحتسي كوبَ قهوتي دون ازعاج.
_ أنظر من النافذة ستعلم ما أريد!
طالع والدي النافذة وسقطت من عينه دمعةٌ مع تعابير الفرح تبان على وجهه، من ثم التفت باتجاهي قائلاً:
_ ياولدي إن الطيور بدأت تخرج من أقفاصها.
_ لم أفهم ياأبي من هم الطيور وأين هي الأقفاص.
_ ستفهم فيما بعد ياولدي، لكن لدي بعض الكلمات أوصيك بها فاستمع وأنصت!
_ سمعاً وطاعةً ياوالدي قل ماعندك
_ إن متُ وكنتَ بعدي حيٌّ فأوصيك بأمك وأختك سارة، فها أنت الأن أصبحت رجلاً يمكنني الاتكاء عليه، أفهمت؟!
_ ماهذا الكلام ياأبتي لقد أخفتني!!
_ إن الموت والحياة هو قدرُ الله ومشيئته فلاتجزع لكلامي واثبت على ماعلمتك إياه في السنين السابقة.
أشبكُ أصابعي بعضها ببعض وأتجه خارج المنزل مع شعورٍ محبطٍ ومتخبط،
إنه صديقي سمير يجلس أمام الدكان سوف أسأله عن كل شيءٍ عسى أن أعيَّ مايحصل.
_ مرحبا ياصاح.
_ أهلا بكَ ياأخي.
_ أرأيت المظلات صباحاً؟! من هؤلاء أخبرني؟ فإنني لم أعد أفهم شيئاً!
_ لاعليك إنهم إخواننا رفضوا الذل وخرجوا من قفص هذه المدينةِ متجهين لنيل شرف الشهادة والنصر.
_ أتقصد بأنهم خرجوا لينصرونا على المحتل؟!
_ نعم، وأدعوا أن ينصرهم الله فإننا قد تعبنا من هذا الحصار كله.
_ إذاً هيا نذهب لوسط المدينة نستطلع أخبارهم ماذا تنتظر؟!
انطلقت مع صديقي سمير وبدأنا نسأل الناس عم يحدث وبينما نحن نتبادل الأخبار بفرح وسرور إذ بطائرةٍ مسرعةٍ تتجه نحونا وتقوم بقصف إحدى المناطق القريبة منا، وبعد لحظات طائرةٌ أخرى ومن ثم تتبعها أخرى، حتى لم نعد نشاهد بعضنا لكثرة الدخان والغبار في كل مكان.
تشويش
أناس تركض هنا وهناك ودماءٌ في كل مكان وأصوات الصراخ تثقب أذناي، أركض بسرعة إلى المنزل لأختبئ ودموعي تغسل خداي الذان امتلأ بالتراب،
أين منزلنا؟!!
أصرخ بأعلى صوتي: أين منزلنا؟
عيناي لاتشاهد إلا الركام وبعض الرجال يقلبون الصخور بحثاً عن أحدٍ تحت أسقف المنزل المتساويةُ مع سطح الأرض، بدأت أزيل الصخور معهم ودمعي أصبح شلالاً وصوتي يتعالا قائلاً:
ماما!! بابا!! سارة!!
أمن أحدٍ يسمعني؟!
مامن صوتٍ أسمعه إلا صوت الحجارة الفارغة من الأرواح!
تخبط
لم أعد أسمع شيئاً بعد رؤيتي لجدار غرفتي، لا أسمع سوى صوت ضحكاتي وأختي ونحن نلصق صورنا على ذلك الجدار، التي أصبحت ممزقةً ومتناثرةً في كل مكان.
سقوط
أحد الرجال يحمل والدي المخضب بالدماء ويركض مسرعاً لسيارة الإسعاف قائلاً شهيد شهيد!!
أسقط على ركبتيّ لتتجمد مقلة عيني، وماهي إلا لحظات حتى أرى آخراً يحمل أختي سارة بعد أن قام بلفها بغطاء سريرها ويقول:
إنها طيرٌ من طيور الجنة طيرٌ من طيور الجنة!!
لأسقط على يداي وكأن دمي توقف عن السريان في عروقي،
أحدهم يزيل التراب على بعد أمتارٍ مني قائلاً إن الجنة كانت تحت أقدامها والأن قد سبقتنا إليها!!
جسمي تجمد تماماً حتى أحاسيسي توقفت عن التفاعل معي أأبكي أم أبتسم؟!!
يحملني رجلان بعد أن أغمي علي إلى المشفى.
نهاية
على سرير المرضى في المشفى نسمع صوت جنازير الدبابات تتقدم بإتجاه المشفى!!
بعد دقائق معدودة توقف الصوت لنسمع صوت جنديٍ في المكبر قائلاً:
الموت ملاحقكم أينما كنتم!
لم أخف لكلامه فالخوف طرد مني بعد أن رأيتُ عائلتي ودمائهم في كل مكان، إلتفت إلى جانب سريري لأرى راية علم فلسطين، أقف فأحملها وأرفعها عالياً وأحمل بيدي الأخرى زجاجة الكحول الطبي متجهاً إلى النافذة،
أرمي الزجاجة على الجندي صارخاً بوجهه:
أهلاً بموتِ الكرامةِ والشرف!!
ليكون أخرُ مشهد أراه رأس القذيفة المدبب متجهاً إلى
مهما نزعت منك الحياة تذكر بأن أحدهم بقربنا محاصرٌ لايعرف إلا رائحة الموت .
تابعنا على جوجل نيوز