أدب

فرض التعايش

قصة بعنوان : فرض التعايش

محمد عادل رسلان

 

أتاه الجميعُ وهو جالس على عرشه وبجانبه مساعده والنبلاء.
كانوا متكوِّنين من أربع فئات أطباء ومهندسون والفقراء المساكين
ينادي الأطباء كي يدخلوا عليه
فيقولون : أبو قراط قد علَّمنا كثيراً وابن سينا والفارابي قد نحتوا عقولنا بزخرفاتهم المجيدة والتي بكل تأكيد جعلت هذا المجتمع أرقى وأمَّا عن علوم الجاحظ فلا تسأل ..
ونحن بذلنا عمرنا كلَّه في الدراسة والأبحاث وبعدما انتهينا من حفظ كل المعلومات في رؤوسنا أضعنا عمراً آخراً ونحن نداوي المرضى من هؤلاء الناس وخصوصاً هؤلاء العبيد الذين جعلونا نضجر لكثرة مرضهم، ألا يهتمون بأنفسهم، وقد يئسنا من الحال المتردية التي دائماً ما تتفاقم أكثر فأكثر، لذلك يا سمو الملك هل لكَ أن تعزلنا عن سوانا كما يعزُل النبلاء أنفسهم ؟
يقول أنه سيفكر بالأمر ويشير لهم كي يخرجوا فيخرجون ويصرخ للمهندسين ويخبرهم بقول الأطباء
فيردُّون: ولماذا هم نيِّقون هكذا ؟
هل يظنُّون أن الطبَّ هو كل شيء في هذا العالم؟
لا والله وبكسر الهاء، لولانا لما بِتِّم في منزل أبداً فكل مكان في هذه البلدة عندنا له مخططٌ كامل, قد فركنا رؤوسنا ألف مرة ونحن نحاول أن نبني ما يُرضيكم دوماً, ألَّا تخرجوا لتنظروا إلى كل المباني والحصون والجسور بل انظروا إلى هذا القصر الجميل الذي نحن به الآن، بديع الأمكنة نحن، كان يجب علينا في كل يوم أن نتحمَّل العبيد وهم يلحون دوماً ويشكون التعب ويطلبون منَّا أن يرتاحوا تحت ظلال النخل الطويل من أشعة الشمس الحارقة، هل يقارنون أنفسهم بنا ؟
يضجر النبلاء من بين الجميع وهم في غرفة الملك قد استمعوا لكلا الأطباء والمهندسين فبعد خروج المهندسين يصرخون : لا وألف لا، كل معيشتهم كانت من أموالنا ونقودنا وسخائنا عليهم ولو أرادوا أن يخرجوا لما عاشوا دون أموالنا، أيظنون أنفسهم كل شيء هنا ؟
لئن لم ينتهوا لسلَّطنا عليهم ألف امرئ يجيئهم من كل حدب وصوب لكي يعذِّبوهم بشتى طرق التعذيب، فليلزموا حدهم فكل من يعيش هنا ، دون سيادتك بالتأكيد، يعيشون من خيراتنا ولو أردنا أن نقطع الأموال عنهم لما عاشوا وليموتوا هؤلاء العبيد ولا يعيشوا أبداً وليناموا في الشوارع ومن يسأل ؟
المهم راحة بالنا نحن ..
يدخل جندي ويقول للملك أنه ما زال هنالك فئة في الخارج وهم الفقراء فيأمره الملك بإدخالهم فيدخلون ويقول لهم الملك ما قيل من كلا المهندسين والأطباء فيقولون : تعبنا، تعبنا، كلكم تشكون منَّا ونحن دوماً نسكت، نغلق أفواهنا لكي نأخذ من النبيل فلساً أو طعاماً لابنة أو لابن أو لزوجة أو لوالد أو والدة وبسبب حبنا لهم وحزننا عليهم حين مرضهم نأخذهم إلى طبيب لكي يعافيهم ويداويهم ولأننا لا نرضى على نوم عوائلنا تحت عوامل الطبيعة المختلفة أزلنا لقمةً من جوف فمنا لكي ننام تحت سقفٍ محصنٍ يقينا أحوال الطقس المتغيرة من شمس حارقة وصولاً إلى مطر غزير ..
لم تسنح لنا الفرصة للتعلم أو العمل فقط سنحت للمذلة والخنوع ذاك ما عايشناه طيلة حياتنا .
همَّ الفقراء بالخروج تاركين أوجاعهم وأحلامهم أمام أقدام سموِّه ومن بقوا بالغرفة هم أفراد الطبقة النبيلة فقط ..
فبدؤوا مرة أخرى : ماذا ستفعل يا سموك ؟
أخذ وقتاً يفكر واضعاً يده على ذقنه، أزال يده وبدأ بتدويرها كأنه يستفهم قائلاً : ماذا لو أعطيتهم كلهم ما يريدون وعزلت الأطباء والمهندسين وأبقيت الفقراء تحت رعايتي ؟
بدأ أفراد الطبقة النبيلة يتحاورون فيما بينهم : ماذا؟! يعزلهم ويُبقي الفقراء تحت رعايته، ماذا سيبقى لنا نحن ؟! ماذا سنفعل ؟!
صرخ واحد منهم اعزلنا نحن أيضاً إن كنتَ تريد إعطاءهم ما يريدون أجمعين
وافق على ما أرادوه أيضاً وكادت عينا مساعده أن تخرج من جحريهما، أمره بأن يصمت وسيتناقشان بكل هذا لاحقاً ولن يتراجع عن قراره بتاتاً ..
اشترط على الجميع في النهاية أن البلدات التي ستكون لهم إن هي إلا تحت أمره وحكمه وسيكون التموين من جهته هو ليس أحداً آخر والأمر بينهم سيكون كما التجارة ..
ذهب الأطباء لكي يحلوا في قرية نائية ببيوت طينية تم الاعتناء بها سابقاً وكانت القرية محاطة بكثير من الأعشاب الطبيعية، بدأ الأطباء بالعمل على تلك الأعشاب واستخلاص منها أشياء مفيدة كثيرة وبدؤوا بمبادلتها مع سيادته لكي يحصلوا على قُوْتهم وطعامهم، ينظرون بعدها إلى البيوت تلك التي لم تكن بتاتاً كبيوتهم التي كانت بالمدينة ولم تعد تعجبهم فيخططون لإعادة إعمارها ولكن كيف؟
إذ لا مقدرة لهم على الإطلاق
بدؤوا يتسخون بتأثير الطين الذين يحاولون أن يصنعوا به شيئاً ولا شيء ينتج منهم ..
ودخل المهندسون لمدينة كانت ذات معمارٍ خاصٍ ورائعٍ جداً
لكنها بعينهم لم تكن بالبهاء الذي يريدونه لأنفسهم ..
اجتمعوا جميعاً وأرادوا أن يحسِّنوا من ما هو هنا ..
وكي يُبهِروا الحاكم ويعترف أنهم يمكنهم فعلها وحدهم ..
وضعوا مخططاتٍ لم توجد في العاصمة أصلاً, تلك المخططات ستجعل هذه البلدة الصغيرة مزاراً سياحياً وستنافس العاصمة بكل ما بها من أبنية وجسورٍ وأعمدة وكل ما هو فنيٌّ عماريٌّ ..
زخُرت الطاولة بالأوراق والرسوم التي سيبتكرونها بهذه البلدة ..
وعندما انتهوا من ذلك نظر كلُّ شخصٍ للآخر ..
يرمقون أنفسهم بتعجبٍ وكان السؤال الموجود بأعينهم من سيحمل الأخشاب والأحجار وأكياس المواد وسيبدأ العمل ويبني مخططاتنا ؟ ..
لم يجدوا سوى أنفسهم ويجب عليهم العمل وحدهم ..
لكن الحال لم تدم طويلاً .. فقد تعبوا دون أن يُكمِلوا أول بناء
وذهب النبلاء إلى بلدة أخرى وكان كلُّ شيء بها مكتملٌ ..
كانت البلدة فيها كل الأشياء المهمة للاستمرار على قيد الحياة, عاشوا بها مدةً قصيرة ..
وكان التذمر العمل الآخر لهم ..
فلا يوجد أحدٌ يخدمهم ولا أحدٌ كي يمارسون استعبادهم عليه
يجلس كلٌّ منهم على كنبته ويصرخ : اجلب لي كأس ماء ولا مجيب .. ثمَّ جاؤوا أجمع كي ينهبوا بعضهم خوفاً من أن تنفذ ثروتهم الخاصة ..
مرَّ من جوار البلدة رجلٌ رحَّال فذهبوا إليه كي يمارسون أفعالهم عليه وبدايةً يقنعونه بأن يبقى معهم ..
فقال الرجل : أنه قد درس القضاء وقد طُلِب عند الحاكم الذي يحكم هذه الأرض ..
فسألوه : إن كنتَ تدرس القضاء فتعال واعدل بيننا فإننا نعاني من الأشرار هنا وكثير هنا من ينهبون حقَّ غيرهم
وافق الرجل شرط أن يتم ذلك بسرعةٍ كي لا يتأخر على الحاكم ..
وعندما جمعهم أجمع في غرفةٍ واحدةٍ لكي يُكيلهم بأفعالهم
ظنوا أن أشرف شخصٍ بينهم هو من يعطي القاضي رشوةً أكبر ..
فتجمَّعت أملاكهم الثمينة لدى القاضي ولم يعرف ماذا يفعل بكل تلك الأموال والذهب ..
فوضعهم ضمن أكياس واختفى ..
وعاد الجميع لحضرة الحاكم ودخلوا عليه مسرعين ..
الأطباء تكسوهم الأطيان والمهندسون المُتعبون وبعضهم من كُسِرت عظمةٌ منه والنبلاء الذي لم يبقَ لديهم فلسٌ واحد
صرخ الأطباء : يا صاحب السمو .. إننا لا نقدر بلا المهندسين بتاتاً فلهم الفضل بعمار بيوتنا ..
المهندسون : سيادتكم .. نحن لا نقوم بلا عمَّال فهم أصحاب الهمَّة القوية ونحن أصحاب العقل المدبِّر
النبلاء : قد نُهِبنا يا حاكمنا ومُقيم العدل بيننا .. والآن نعترف أنه لولا خدمنا ووجود الناس حولنا لما عِشنا ..
دخل ذاك الرجل الرحَّال حاملاً كيساً كبيراً جداً وأكمل النبلاء : هذا هو من نهبنا وسرق أملاكنا ..
الرجل : يا مولاي .. لقد كانوا يريدون أحداً ليقيم العدل بينهم وعندما جئت عندهم أصبح البريء بينهم من يعطيني مالاً أكثر فكلهم متهمون بالفساد ..
ودخل الرجل لداخل القصر للغرف الداخلية ..
ضحك الحاكم استهزاءً وردَّ : أنتم كلكم كنتم أنانيين ..
الآن وقد عرفتم أنكم لا يمكنكم البقاء على قيد الحياة دون وجودكم مع بعضكم البعض ..
وثمَّ أشار الحاكم لحارس باب القصر بأن يُدخل من يوجد بالخارج .. فدخل مجموعة من الفقراء الذين كانوا ..
وقال الحاكم : انظروا إلى هؤلاء, قد أُتيحت لهم الفرصة بأن يصبحوا فمنهم من أصبح ثرياً وأصبح ذو علمٍ ومنهم من أصبح مهندساً أو طبيباً .. فما حاجتي لكم الآن ؟!
هنا بدأ الكل يرجو الحاكم بأن يُبقي عليهم داخل العاصمة وأنهم سيُحسنون التصرف بالمرات القادمة, فقط يريدون أن يعفو عنهم ويعدونه بأن يكونوا أفضل من ذي قبل ..
أمرهم بالانصراف خارج القصر وعفا عنهم كلهم ..
وقال مساعده : يا صاحب السمو .. الآن أخبرْني لمَ أردتَ أن يكون التموين منكَ فقط …
الحاكم : أيها الأحمق لو لم أقم بتموينهم لوجدوا شخصاً آخر وانعزلوا بالبلدات التي أعطيتها لهم ..
يجب عليكَ أن تكون حذقاً فبهذه الخطوة أكدتُ لهم على أنهم سيكونون تابعين لي مهما فعلوا ..ألا يوجد لديك سؤال آخر؟
المساعد : مثل ماذا ؟!
الحاكم : ذاك القاضي إنه يعمل لدينا .. وأنا من أرسلته لكي يقيم في بلدة النبلاء, قد أنفقت خزينة الدولة وأنا أعلِّم الذين ظن الجميع أنهم فقراء ..وكيف سأردُّ كلَّ شيء ؟!
ليس لي إلا أموال النبلاء الذين احتكروها لأنفسهم فقط ..
والأطباء والمهندسون … كان بينهم جاسوس يعمل لديَّ لكي يجيء لي بما سيبتكرونه كلاهم

مقالات ذات صلة

تابعنا على جوجل نيوز

قم بمتابعة موقعنا على جوجل نيوز للحصول على اخر الاخبار والمشاركات والتحديثات .. متابعة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
رجوع
واتس اب
تيليجرام
ماسنجر
فايبر
اتصل الآن
آخر الأخبار

أنت تستخدم إضافة Adblock

يجب عليك ايقافها لكي يظهر لك المحتوي