أدب

أنا..والآخرون

جريدة مصر اليوم نيوز

أنا..والآخرون

قصة : محمد سعد شاهين

شعرت (هند) برعشة تجتاح جسدها؛وأطرقت رأسها أرضا تحاول الهروب من نظرات تتفحصها ،وتخترقها في انتهاك مباح . كانت تخجل من جلبابها الرث المتهالك،وتداري تمزقات أكبر من حجم يديها الصغيرتين،شعرها الأسود لم يلامس فرشاة منذ زمن بعيد ،فاختبأ داخل الغطاء خجلا.
_ما اسمها؟
نطقتها (نيرمين) هانم كما تحب أن يناديها الآخرون وهي تشير إلى الفتاة السمراء في صوت لا يخلو من تكبر،فأسرع الحاج (سيد) بواب العمارة يجيبها فى توتر:
_هند . والدها متوفي،ووالدتها تعمل فى مصنع حلويات بجانب العمارة،وأوصتني عليها .هى من الصعيد وفى سن العاشرة تقريبا. لكنها ذكية ونشيطة .
صمتت ( نيرمين) قليلا، ثم قالت :
_من الواضح أنها لم تستحم منذ زمن .
حاولت (هند) أن تمنع دمعة سالت من عينيها وارتطمت بأرضية الحجرة في صمت،وسمعت البواب يجيب في حرج:_صدقيني أنها نظيفة ،بشرتها سمراء بعض الشىء.
نيرمين :_ تمام .تبدأ من اليوم وأمامها أسبوع للتجربة.
ابتسم البواب وهو يتناول مبلغا وتمتم :_ستكون عند حسن الظن
ثم تركها وانصرف .
وقفت (هند) تراقب نظرات الهانم التي قالت لها في لهجة آمرة:
_ هيا .قبل أي شىء الاستحمام وتغيير تلك الملابس الرثة والتخلص منها .أتذكر أن هناك ملابس لخادمة صغيرة كانت تعمل قبلك هنا ،عليكِ بارتدائها بعد الاستحمام.
ثم أشارت إلى حجرة صغيرة وقالت :
_هذه الحجرة هى دورة مياه لكِ،لا ألمحك أبدا في دورة المياه خاصتنا إلا وأنتِ تنظفيها فقط.
كانت الكلمات تخرج من (هند) بصعوبة وهى تهمس:_ حاضريا هانم
لم يسبق لها العمل كخادمة في أي مكان،وكانت تجربتها الأولى ولهذا كانت ترتعش رعبا وخجلا وهي تدلف داخل الحجرة لتستحم.
كانت دموعها تنافس المياه المنهمرة على جسدها وهى تعلم في قرارة نفسها أنها أصبحت خادمة ،وأن طفولتها ستزول كما زالت آثار الغبار مع المياه التى تتجه نحو مجرى الصرف.
************
وقفت (هند) في مطبخ المنزل تراقب سيدة أربعينية ؛تطهو طعاما بدا شهيا من رائحته وسال لعابها وتوترت معدتها ثم لم يلبث أن شعرت بغصة في حلقها وهى تسمع تلك السيدة وهي تقول:
_هذا الطعام ليس لكِ. هذا طعام الأسرة .(عاصم) بك و(نيرمين) هانم وابنهما (هاني).طعامك بعض الجبن وسأطهو لكِ بيضة .ومهمتك هنا التنظيف .تنظيف كل شىء حتى تلك الأواني والأكواب.
ثم صمتت قليلا واستدارت لتلمح (هند) وهي تنظر للطعام في لهفة مشتاق يودع معشوقته ويدرك استحالة علاقة تجمعهما .فترددت قليلا وتلفتت حولها وأمسكت قطعة صغيرة من اللحم وتناولها ل(هند) التى ملأ اللعاب فمها .
_ما هذا؟!
قفزت قطعة اللحم من يد السيدة وهي تنظر إلى (نيرمين) هانم في خوف وحرج ،وارتعدت فرائص (هند) وهي تسمع الهانم تصرخ :
_أكيد أصابكِ الجنون يا أم (محمود). هذا الطعام لنا فقط فكيف تعطيه لها؟
أم محمود: _قطعة صغيرة لن تنقص شيئا يا سيدتي .كنت أراها ترتجف من فرط الجوع.
نيرمين:_هناك طعام لها .إن الجبن الذى ستتناوله هنا بالنسبة لها أفخر أنواع أكلتها فى حياتها.بالتأكيد لم تأكل سوى المش. لو كانت جائعة تتناول طعامها الآن فلديها عمل ستقوم به .هيا
ثم غادرت المطبخ وتركت خلفها جبلا من الألم والحزن .
*************
جلست (نيرمين) أمام مديرة الحضانة الخاصة الدولية،ووضعت ساقا فوق ساق وهي تقول:_هل من الممكن أن أفهم سبب طلبك لحضوري؟
تجاهلت المديرة غطرستهاوهي تقول :_ابنك(هاني) تشاجر مع بعض الزملاء له فى الحضانة
نيرمين:-ماذا؟ (هاني)!.إنه هادىء الطباع ولا يتكلم كثيرا ومسالم ،بالتأكيد هناك خطأ ما.
ضغطت المديرة زرا على مكتبها فدلف من الباب رجل أمن فنطقت كلمة واحدة :(هاني).
وفي لحظات كان (هاني) أمامهما يقف صامتا لا يتحرك.
المديرة :_لماذا تشاجرت مع صديقك يا (هاني)؟
صمت (هاني) قليلا وهو يختلس النظر لوالدته ثم انهمرت الدموع من عينيه وهو يتمتم في خوف :
_هو..هويسخر مني. أنا..أنا بتكلم غلط
المديرة :_عد إلى الحديقة يا (هاني) .
لم يكد (هاني) يغادر الحجرة حتى هتفت المديرة :
_(هاني) منذ فترة يتكلم بصعوبة،وحالته تزداد سوءا.لابد من زيارة طبيب نفسي فتجاهل الأمر سيزيده تعقيدا.
هتفت (نيرمين) فى حدة:_ ابني لا يعيبه شىء .أنتم سبب ذلك وسأنقله من هذا المكان السىء.
وغادرت الحجرة وهي تشتعل غضبا..
**********
دلفت (نيرمين) إلى شقتها مساء واقتربت من حجرة ابنها فى هدوء ،وكلمات مديرة الحضانة تغزو رأسها في إلحاح. وصل إلى مسامعها صوت (هند) تتحدث مع ابنها..
هند:_لا تبكي. لا تستمع إلى صديقك
هاني:_يسخر مني لأننى أتحدث بصعوبة.
هند:_أنت الآن لا تتحدث بصعوبة. لقد سمعت طبيب فى التلفاز يقول أن الخوف هو السبب. لا تخاف. العب معهم وارسم لوحاتك فأنت رسام ماهر؛وهذا سيقويك ويجعلك مميزا.ولا تخشى والدتك فهى تحبك كثيرا .
هاني:_أنت ذكية .كيف تفهمين تلك الكلمات ؟
هند:_أحب الاستماع للكبار ولبرامج التلفاز المفيدة. وأحب قراءة القرآن .اسمع صوتي فهو الشىء الوحيد المميز لي. الكل يرانى طفلة صغيرة سمراء ولست جميلة، فقيرة والآن خادمة أيضا.
وبدأت (هند) ترتل سورة الفاتحة بصوت ملائكي عذب جعل (نيرمين) ترتعش خشوعا ودهشة فى آن واحد،وظلت بجانب باب الحجرة صامتة وعقلها يعيد ترتيب الكثير من الأفكار.
وفي صباح اليوم التالي كانت (نيرمين) تخطو نحو مطبخها وهى ترى (هند) تنظف بعض الأكواب ،وأم محمود تعد بعض الطعام للطهى.
نيرمين:_أم محمود .أريد منكِ أن تضيفى بعض الخضار وقطع اللحم .
أم محمود:_هل سيأتى ضيوف لكِ يا هانم؟
نيرمين :_لا .من اليوم سيأكل كل من في المنزل طعاما واحدا.لن يكون هناك اختلاف.
وابتسمت ل(هند) ابتسامة جعلتها تشعر ولأول مرة بالطمأنينة .

تمت

مقالات ذات صلة

تابعنا على جوجل نيوز

قم بمتابعة موقعنا على جوجل نيوز للحصول على اخر الاخبار والمشاركات والتحديثات .. متابعة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
رجوع
واتس اب
تيليجرام
ماسنجر
فايبر
اتصل الآن
آخر الأخبار

أنت تستخدم إضافة Adblock

يجب عليك ايقافها لكي يظهر لك المحتوي