
فلسفة الموت عند ممدوح عدوان
بقلم/ علي أحمد جديد
“إرفَعِ البابَ قليلاً سيدي
كي أَمُرَّ الآن من غَيرِ انحناء
كلماتي عمرها لم تَرَني
مُنحنياً”
حين كتب يَصِفُ حال البعض الذين استولوا على مُقدَّرات البلاد وسطوتهم على العباد
جاؤوا من قراهم فقراء
ثم صاروا أغنياء
ثم صاروا طواغيت
وسرعان ما عادوا
إلى قراهم
مُحَمَّلينَ بالتوابيت .
كان يعلم بأنها لن تكفي عبارة «مقارعة الموت» في نصوص ديوانه الشعري «تلويحة الأيدي المتعبة» التي أدرك كاتبها ممدوح عدوان خلال مرضه ، أنّ جسده سينطفئ قريباً ، ليقومَ بجردة حساب حياته وهي تذوي في طريقها إلى التلاشي والغياب .
سأموتُ بلا صَخَبٍ
وبلا استئذانْ
كأنني اليوم حَبَوْتُ
وسأُشَيِّعُ نفسي دون أذانْ
دون عويلٍ
ودون صوت
لكن استسلامه الكلي للموت ينطوي على مبارزات كان ينتصر الشاعر فيها تارةً ، ويخسرها تاراتٍ أخرى وفقاً لجرعة الألم ولقوّة الحياة وهما يتناوبان على جسده المنهك :
آنَ أن نَرجِعَ للبيت
هذا الليلُ أقبلَ مثل الطواغيت
وهذا البردُ ينسَلُّ إلى نقيِّ العظام .
آنَ لي أن أقولَ وداعاً
وآنَ الرحيل
ويستحضر الموت بسطوةٍ أكبر ، حين يخاطبه بألفةٍ وحميميةٍ واستعطاف:
تمهّل صديقي ..
هي هزّة مِنّا
وأسقطُ عن غصونِ
الحلمِ توتًا
هي رغبة
أن أكملَ الإنشادَ
ثم أموت
وفي المقابل تتلاشى نبرة السخط التي وسمت تجربة الشاعر صاحب «أمي تطارد قاتلها» الذي أدرك انطفاء حنجرته وذهب إلى ترتيب عزلته الأخيرة في تمريناتٍ شاقّةٍ على مواجهة الموت ، واستعاداتٍ خاطفةٍ للألفةِ المُفتَقدَةِ في الوحشة ، وكأنه يلتفت إلى الداخل ويلامسه ليفحصَ ما هو قريب ومرئي .. ومفتقد . لأن الحنين إلى الموجودات التي لم يُعِرها انتباهًا في صراعاته ، تأخذ حصتها من اهتمامات الشاعر دون أن يتجاهل اقتراب الموت للإنقضاض على روحه.
أعرف أنك قابعٌ قربي ..
وأنك تنتظرني ..
وأن بيننا موعداً لن يتأخر
بهذه العبثية كان ممدوح عدوان يواصل تدوين يومياته الأخيرة ، أو مراثيه الشخصية ويعرفُ بأنه قد تساوت لديه كَفّتا الحياة و الموت .
حين يجيء وقتك
لن تحتاج
إلى أن تقرع الباب
تعال وادخل كأنه بيتك .
وفي تجاوزاته لمناوشة الموت ، وتحديه ، تبزغ إشارات تتعلَّق بشهوات الجسد المنهك وإحصاء خسائره أمام فتنة الأنوثة.
فتتماوج مفردات حسيّة هنا وكأنها تشبّثه الأخير باللذة الراحلة التي يصعب تحققها في جسده وهو يُحتَضَر .
سنموت كلنا ..
وسنترك الحياة وراءنا للذين يجعلون الحياة تستمر ..
ولذلك نستمر في بناء الحياة وكأننا نعيش فيها أبداً ..
ونمتص الحياة حتى آخر قطرة فيها .
وفي قصيدة «قفزة في العراء» مرثية طويلة لأحد أصدقاء الشاعر ، فإنه يظلّ مُعَلَّقًا في قلق الغياب ، كما غابت تواريخ كتابة القصائد لكن نظرة متأنية إلى مكاشفات الشاعر توحي بأنه كتبها قبل رحيله بفترة قصيرة ، بدليل يقينه التام بفقدان الأمل في الشفاء ، ويقينه أيضًا بأن السرطان قد تمكّن منه بعد رحلة علاجٍ طويلة التي يقول عنها .
أنا لا صوتَ لي غيرَ هذا الأنين ..
إنني كتلةٌ من حَطَبْ ..
صرتُ روحاً مُخبَّأةً في ضَريح .
ها أنتَ تُغادرُ دُنياكَ وحيدًا ..
إني أرتّبُ بعضَ شؤوني ..
وأوشكتُ أن أنتهي .
لكنه يُبقي تعلّقه بالأمل وهو يَخِطُّ جملته الأخيرة من الكتاب حين يقول ..
لكنني سأخدعهم هذه المرّة أيضًا ..
ثم لن أموت .
ويَحضُرُ شاعر «الدماء تدق النوافذ» في منطقة الشِعر الأثيرة بالنسبة إليه وإن كان قُرُاء كثيرون يُفضّلونه في حقولِ الترجمة والمسرح والعمود الصحافي ، وقبل كل ذلك ، يُفضّلونهُ في حضوره الشخصي الصاخب كمثقفٍ معارِض ومتمرّدٍ مشاغبٍ وعنيدٍ أمضى عمره واقفًا عكس التيار ، وخاض معاركَ وسجالاتٍ ساخنةً في ساحةٍ ثقافيةٍ مُهَجَّنةٍ يغلب عليها الركود واللامبالاة والإستهتار ، كانت حصيلتها منعه من الكتابة أكثر من مرّة . لذلك لابد من إعادة قراءة كتابه الأخير قبل رحيله ، في طبعته الجديدة «حيونة الإنسان» بوصفه بيانًا شاملًا في فحص وتشريح وفضح تاريخ الطغيان والتسلّط والعبودية والإذلال .
وفي بعض نصوصه القصيرة غير المكتملة التي وردت في كتابه «قفزة في الهواء»، يقع تحت وطأة الإيقاع العالي ، مسترسلًا بمتوالياتٍ لا تقود إلى خلاصٍ كان يأمله ، ولا فكرة نهائية أو شعرية صريحة ، وكأنها مجرد بروفات شعرية يختلط فيها صوت الكمان بالإيقاعات الشرقية الصاخبة التي يغيب عنها العزف المنفرد ويتلاشى بمكاشفاتٍ حياتية تنطوي على ارتباكاتِ وصايا الوداع الأخير أكثر من اعتنائها بالخطاب الشعري ، وبالحنين ، وبالفراق والوحدة على حساب الصورة المبتكرة ، في حداء طويل ومرير وأليم، يَشي بقلِّةِ الزاد وبُعدِ السفر .. ووحشة الطريق .
هكذا ، غاب ممدوح عدوان ورحل .. ولكنه لم يَُمت ، ولن يموت .