ضروب الشعر العربي
ونشأته الغنائية
بقلم/ السعيد عبد العاطي مبارك الفايد
وايداه وايداه!
” مضر بن نزار ”
تغن بالشعر إمّا كنت قائله إن الغناء لهذا الشعر مضمار
” حسان بن ثابت ”
في البداية لقد درست
و درَّست الأدب العربي شعراً و نثراً و تعرفت على تاريخه و فنونه عبر العصور و مذاهبه و تقليدي وحداثي مع روح العصر و تطور الحياة و معها الإنتاج الإنساني عقلا و وجدانا تجارب ذاتية تعكس الواقع و الخيال معاً
و طالعت كُتب تاريخ آداب اللغة العربية
ومصادره الرئيسية :
لجرجي زيدان و المستشرق بركلمان و صادق الرافعي و توقفت طويلا مع أستاذنا العلامة د٠ شوقي ضيف في تاريخ الأدب العربي و مذاهبه الفنية بين الصنعة و الطبع و فصول في تحولات الشعر و تطوره و نقده و سيرت على نهج الدراسات الأدبية ككشاف يضيء لي الدرب فيما بعد في كتاباتي المتعددة و المتنوعة كنقطة انطلاقة
و مما لا شك فيه إن جمال الطبيعة يستوقفنا بين ظلالها الوارفة ، و من ثم وجدنا صوت الحياة القوي يتغلغل في نفوسنا يبعث البهجة و الحب بمثابة سيمفونية عزف غنائية رائعة حيث شدو الجداول و الطيور ، و لذا ترتاح و تأنس نفوسنا بالشعر و الغناء و الموسيقى والخيال على حد سواء
و كل هذا و ذاك نابع من الوجدان الذي يهز المشاعر في وحدة و ثنائية تشكل عملية الإبداع الفني لأجناس الأدب الذي يشكل مزج المشاعر و العواطف الصادقة و المؤثرة التي تهز القوب هكذا
فكان الشوق و الحنين و البين و الفراق و غربة الذات و الديار و الرثاء و الشكوى و الديار و الوطن عناصر تلازم الروح و البدن و الزمان و المكان أينما كان هذا الإنسان فهي له العنوان
و قد ألف الإنسان العربي في جزيرة العرب قديما العيشة البدوية و الارتحال و المدنية و الحضارة في ظل ظاهرة الغناء
و نتوقف مع الشعر فأنواع الشعر عند اليونان كانت ضروب أربعة :
تمثيلي و قصص و غنائي و تعليمي
و الشعر الغنائي أصل الشعر وجوهره، والملحمي والمسرحي وظيفي
و قسّم قدماء اليونان الشعر إلى أنواع ثلاثة وهي كما ورد بالجمهورية لإفلاطون وبكتاب
فن الشعر لأرسطو:
أولا الشعر القصصي شعر الملاحم: الأوديسا والإلياذة
وثانياً الشعر التمثيلي المسرحي المأساة والكوميديا
الشعر الغنائي شعر القصائد
و الشعر التعليمي له موضوعاته أيضاً
و لكن شعرنا العربي عرف لون الشعري الغنائي المناسب تلك البيئة
كما سموا الشاعر الجاهلي الأعشى بصناجة الشعر لحسن صوته في إنشاد الشعر و تباروا في أسواقه حيث المساجلات
و على أية حال نشأ الشعر نشأة غنائية في أولياته كما تروي لنا كتب الأدب
و هذا المنفلوطي يؤكد لنا تلك النظرة و المعاني من خلال رأيه
يقول مصطفى صادق المنفلوطي:
ما كان العربي في مبدأ عهده ينظم الشعر ولا يعرف ما قوافيه وأعاريضه، وما علله وزحافاته، ولكنه سمع أصوات النواعير وحفيف أوراق الأشجار وخرير الماء وبكاء الحمائم فلذّ له صوت تلك الطبيعة المترنمة, ولذ له أن يبكي لبكائها، وينشج لنشيجها، وأن يكون صداها الحاكي لرناتها ونغماتها، فإذا هو ينظم الشعر من حيث لا يفهم منه إلا أنه ذلك الخيال الساري المتمثل في قريحته ”
ذلك أن الوزن نفسه مرَّ في العرب على أدوار، فكانوا يحدون الإبل من أقدم أزمانهم بكلام وأصوات تشبه التوقيع لأنه من المعلوم بالضرورة أنه لا ينفس من التعب ولا يبعث على النشاط غير الأصوات الموقعة على وزن ما
وقد نقل ابن رشيق في العمدة :
أن أصل الحداء عندهم من النصب، وهو غناء الركبان والفتيان، اشتقه رجل من كلب يقال له: جناب بن عبد الله بن هبل، فسمي لذلك الغناء الجنابي ، وكله يخرج من أصل الطويل في العروض.
وهو لا يريد إلا الحداء المنظم الموزون الذي جروا عليه أخيرًا صنعة لا فطرة فيها.
وقال في موضع آخر:
ويقال إن أول من أخذ في ترجيع الحداء، مضر بن نزار؛ فإن سقط عن جمل فانكسرت يده، فحملوه وهو يقول وايداه وايداه! ٠
وكان أحسن خلق الله جرمًا وصوتًا، فأصغت الإبل إليه وجدّت في السير، فجعلت العرب مثالًا لقوله ” هايدا هايدا ” يحدون به الإبل.
وقالوا في أصل الحداء غير ذلك، ولكنهم لم يرجعوه إلى ما قبل زمن مضر، وهي أقوال لا دليل عليها، وإنما جاءوا بها تأويلًا للفظ الحداء عند العرب.
والشعر العربي نشأ ملازمًا للغناء كما نشأ فن الشعر لدى باقي الأمم، ويروى أن هوميروس الشاعر العظيم كان يلحن شعره، ويغنيه، ويقال إن الأعشى أيضًا كان يتغنى بأشعاره، وسمي بصنّاجة العرب، ويقول حسان بن ثابت:
تغن بالشعر إمّا كنت قائله إن الغناء لهذا الشعر مضمار
وعندما كانوا يقولون أنشد الشاعر قصيدة ربما كانوا يقصدون غنّاها لأن الإنشاد يعني لغويًا نوعًا من الغناء ومن هنا كلمة النشيد.
ويقسم الشعر القديم الكلاسيكي إلى:
الشعر القصصي و الشعر الغنائي :
وهو شعر تغلب فيه، على الشاعر، عواطفه ومشاعره الذاتية فيتغنى بها. ولا ينشأ مثل هذا النوع من الشعر إلا بعد تكوّن الأمة وبعد شعور كل فرد فيها بكينونته الذاتية.
وأول من أطلق تسمية الشعر الغنائي على هذا النوع هم الإغريق الذين صاحب شعرهم الغنائي عزفٌ على القيثارة، وتطورت التسمية ثم استخدمت للشعر الذي يعبر فيه الشاعر عن دخيلة نفسه وكأنه يغني عواطفه الخاصة، وأغلب الشعر العربي القديم من هذا النوع
و الشعر التمثيلي :
يعرف العرب شعرًا تمثيليًا حقيقيًا كالذي عرفه الإغريق القدماء، بل عرفوا شعرًا حواريًا يضع فيه الشاعر حوارًا بين شخصين أو أكثر بحيث تكون القصيدة قريبة من المشهد التمثيلي البسيط.
ونجد كثيرًا من ذلك في أشعار امرئ القيس وعمر بن أبي ربيعة
الشعر القصصي :
نوع من الشعر يقوم مقام الرواية فيسرد القصص ووقائع الأبطال حاملاً عواطفهم وهمومهم وأفكارهم.
وهو في الأصل يعتمد على قصة واقعية تتناقلها الألسنة فتتعرض للتحريف والزيادة والمبالغة، ويتصدى لها شاعر أو شعراء يخلدونها بقصيدة عصماء تدلي بدلوها أيضًا في تزيين الخوارق البطولية للحدث.
وتدل الدراسات أن العرب لم يعرفوا الملاحم الشعرية كالإلياذة عند الإغريق أو الشاهنامة لدى الفرس بل ما عرفه العرب هي الأشعار التي تروي وقائع أيام العرب وتناقلتها الأخبار والمجالس من جيل إلى جيل.
لا شك و لا جدال في أن الشعر العربي نشأ نشأة غنائية ، و لذا صار على وجه ( الصنعة ) حيث القيود و التكلف في عملهم و حرفتهم و تصويرهم عن جهد ، أضف إلى توفير قيم صوتية كثيرة
و الشعر الغنائي له تأثير واسع في تغيير أوزان الشعر العربي و أوضاعها القديمة
و عند اليونان القدماء نجد هوميروس يغني شعره على أداة موسيقية ، و عند الغربيين المحدثين و جماعة تؤلف الشعر و تغنيه المعروفة باسم تربادور و في مصر إلى عهد قريب جماعات الأدباتية تؤلف الشعر و تنشده على الآلات الموسيقية ، و مازال الشاعر معروفا في الريف و هو يلقي أشعار أبي زيد الهلالي و عنترة و غيرهما على الربابة
وقد شاهدت هذا بنفسي عندنا في القرية في مقهى حجازي ليلا و في بعض منازل أقاربنا و قد تجمع حوله الأهالى و المحبين من مناطق مجاورة و ذلك بعد حرب ٦٧ و قد أتى ضابط شرطة ناصر و فض التجمع و انصرف الشاعر الذي يأتي كل عام مرة في تلك البلاد
فالشاعر كان يغني شعره على بعض الآلات الموسيقية كما يُصحب غناؤه بجوقة و قيان و رقص وسط ضرب الدفوف ، و كل هذا ظاهر و جلي لنا في مواكب أعيادهم و أعراسهم و حفلاتهم المختلفة و كل هذه المظاهر غريزة في الناس.
فالشعر العربي مثله مثل الشعر الغنائي عن اليونان ، و من ثم تبدو ملامحه في ظروف تلك البيئة ولذا نجد أن الشعر الغنائي استقل منذ أواخر العصر الجاهلي و أُطلق عليه بالشعر التقليدي
و نبع الشعر العربي من منابع غنائية موسيقية أوزان ، و لعل القافية أهم تلك المظاهر
و ظل الشاعر بين الطبع و الصنعة و بهذا لم يكن حرا طليقا حيث يخضع لتقاليد صناعة الشعر في نظمه و معالجته لموضوعاته في إطار التعبير عن ذاته و تجربته في ظل التعبير و الموسيقى و التصوير ، فالشعر الجاهلي ليس تعبيرا فنيا حراً بل هو تعبير فني مقيد
ليس تعبير الطبيعة و الطبع ، بل تعبير التكلف و الصنعة ، و ظهر هذا حتى في تقسيم الشعراء في العصر الحديث إلى شعراء ( شعراء الصنعة و شعراء الطبع ) و هذا يخالف طبيعة و حقيقة شعرنا العربي فكل شعر مطبوع تظهر فيه أثر التكلف و الصنعة
و قد أذاع الجاحظ هذه الفكرة حين كان يعارض الشعوبية وهذه الفكرة قد دعا إليها.
بإن العرب يقولون الشعر عن طبع و سجية ، و غيرهم يقولون الشعر عن صناعة
و هذا مخالف للواقع كما أثبته كثير من النقاد بأن العرب يكتبون بالمعاناة و المكابدة و ليس ارتجالا و الهاماً كما في قصائد الحوليات التي تمكث عند الشاعر عاما يردد فيها نظره و يجيل فيها عقله و ينقح
هذه كانت تأملات حول نشأة الشعر العربي الغنائية و كل شاعر حرص على هذه النزعة كتابةً و إلقاءً في توازن له حضوره عند المتلقي دائما.
تابعنا على جوجل نيوز