
قصة : محمد سعد شاهين
كانت طرقات مروان على الباب متسارعة، تعكس شوقه ولهفته. قلبه يخفق بعنف، كأنه يسابق اللحظة التي ستجمعه بها من جديد. مرت سنوات طويلة وهو بعيد عنها، غارق في غربته، يعمل ويكدح في إحدى الدول العربية ليؤمن مستقبله. والآن، ها هو أخيرًا هنا، أمام الباب، على بعد لحظة واحدة من رؤيتها.
فتح الباب…
طالعه وجهها المشرق، المبتسم، الذي ازداد نورًا حين وقعت عيناها عليه.
— أمي!
نطقها مروان بكل ما يحمله قلبه من شوق وحنين، بكل ما افتقده في غربته الطويلة. اندفع نحوها، واحتضنته بقوة، ودموعهما انهمرت بلا مقاومة. لم تكن مجرد دموع لقاء، بل دموع حرمان استمر لسنوات.
جلس مروان على أريكة في الصالون، يتأمل المكان بعيون تملؤها الذكريات، ثم قال بنبرة مرحة:
— وحشتِيني يا أمي… وحشني كل شيء في البيت! سامحيني، الشهر الماضي لم أستطع الاتصال بك، لكني بمجرد أن سنحت لي الفرصة، جئت فورًا. حتى هناء لم أخبرها، أردت أن أفاجئك.
كانت تنظر إليه بحنان، تبتسم بهدوء، ثم تمتمت:
— كنت أعلم أنك ستأتي… انتظرتك.
رفع مروان حاجبيه متعجبًا:
— انتظرتيني؟ لماذا؟ كنتِ ستذهبين إلى مكان ما؟
ابتسمت ابتسامة دافئة، وكأن نورًا يشع من وجهها:
— كنت هنا في انتظارك. مرّت سنوات وأنا أشتاق إليك، لم يكن بيننا سوى مكالمات هاتفية ، لكنها لم تكن تكفي. كنت أحتاج أن ألمسك، أن أشم رائحتك، أن أضمك إلى صدري. كنت أتنفس بصعوبة، مروان… غيابك كان يخنقني.
ساد الصمت للحظات، نظر إليها مروان طويلًا، محاولًا أن يملأ عينيه بها، أن يعوّض قلبه عن كل الأيام التي مرت دون رؤيتها. ثم نهض في مرح مصطنع، محاولًا كسر الأجواء العاطفية التي أحاطت بهما، وقال:
— سأخبر هناء أنني وصلت.
توجه إلى النافذة الصغيرة، نظر نحو الشجرة الكبيرة التي كانت جزءًا من طفولته، تلك التي طالما استظل بظلها في أيام الصيف الحارقة. أخرج هاتفه، واتصل بأخته. لم تمضِ ثوانٍ حتى جاءه صوتها الممتلئ بالدهشة والفرح:
— مروان! أنت في مصر؟ لماذا لم تخبرني؟!
ضحك مروان:
— أردت أن أفاجئكم، كما أنني كنت في مكان لا توجد فيه شبكة طوال الشهر الماضي.
صمتت هناء للحظات، ثم قالت بحزن:
— حاولنا الاتصال بك كثيرًا… كنا بحاجة لإخبارك بشيء مهم.
شعر مروان بقلق مفاجئ:
— ماذا حدث؟
تنهدت هناء، وقالت بصوت مختنق:
— كنا نحاول أن نخبرك أن أمي… رحمها الله، توفيت. كانت تتمنى سماع صوتك، أن تراك ولو مرة أخيرة… لكنها رحلت قبل أن يحدث ذلك.
تجمد مروان. لم يعد يسمع ما تقوله هناء. أصواتها تلاشت، لم يبقَ سوى صدى كلماتها الأخيرة يتردد في رأسه. التفت سريعًا إلى حيث كانت أمه تجلس…
لكنها لم تكن هناك.
جال ببصره في أرجاء الغرفة، ثم انطلق يركض في أنحاء المنزل، يناديها بجنون، يبحث عنها… لا شيء. لم يجد سوى عباءتها موضوعة على فراشها، دون أن تحتضن جسدها.
أمسك العباءة بيدين مرتعشتين، قربها من وجهه، وانهمرت دموعه عليها وهو يستنشق رائحتها التي لا تزال عالقة بها. كانت الرائحة تسري في أنفه، كأنها تعيد له لحظات مضت منذ دقائق فقط، كأنها تحاول أن تخبره أنها كانت هنا بالفعل، أنها لم تتركه دون وداع.
كان لا يزال يشعر بدفء حضنها، بأناملها التي ضمته بحب، بنظرتها التي امتلأت نورًا وهو يراها آخر مرة.
لكنها… رحلت.
وساعة واحدة، لم تكن كافية أبدًا.