بوليفونية روايات منى عبد اللطيف

بوليفونية روايات منى عبد اللطيف
بقلم الناقد الأدبي د. عادل يوسف
تعدد الأصوات في رواية العنقاء للكاتبة منى عبد اللطيف
جميل جدا أن نضع بصمة جميلة بشفافية مطلقة على رواية رائعة من روائية جندت نفسها وقلمها للكلمة الصادقة ؛ لتكون رمزا واضحا لكل كاتب يحمل رسالة سامية للمجتمع.
نحن الآن أمام روائية فنانة استطاعت أن تدخل في سراديب الحياة في مدينة صغيرة من مدن محافظات القناة هي مدينة بورسعيد ؛ لترصد لنا بأفكارها العميقة مشاعر الفزع والرعب بسبب نزوح سكانها القهري إلى المحافظات المجاورة بسبب الخوف والفزع من نيران الحرب ، وانتشار رائحة الموت الخانقة في كل مكان.
عندما قرأت رواية (العنقاء) فصلا بعد فصل أحسست أنني أشاهد حلقات مسلسل درامي بشوق شديد لما تتميز به الرواية من قوة الترابط بين الفصول وقدرة كبيرة على التشويق.
هذه الرواية قد لامست روحي وعقلي وطرب لها قلبي ، كم كانت تؤنسي عباراتها الجميلة ، أحسست كأني أمام كاميرا السينما وهي تلتقتط المشاهد الساحرة التي أخذتني إلى عالم الزار.
استمعت إلى دقات الزار ، ومناجاة عزيزة لأسيادها ، وشممت دخان رائحة البخور العطرة ، شاهدت الجلباب الأبيض المبقع بدماء الديك المذبوح وشعرت أن جسمي يتمايل معهم على أنغام موسيقى الزار.
وكذلك وجدت هذا الوصف المرعب لشجرة (الحكاءة ) الأسطورية، هذه الشجرة العجيبة التي رسمتها الكاتبة ببراعة شديدة ،وكأنها تمتلك كاميرا سينمائية في غاية الدقة والإتقان تقول الكاتبة :
“انشقت الأرض وخرجت منها شجرة عملاقة ممتدة الأفرع ، تشبه في وقفتها الإنسان ، ولكنها عملاقة ، ذات ساقين وفرعين طويلين ممتدين على جانبيها ، وأفرع أخرى ممتدة فوقها ملتفين حول بعضهما كالثعابين.
تكاد للوهلة الأولى تتخيل حركتهم ، أوراقها ليست خضراء، بل صفراء كأوراق الخريف، كبيرة الحجم ، كل ةرقة منقوش عليها أحرف وكلمات بلغة غير معلومة”
بوليفونية روايات منى عبد اللطيف
والقارئ لرواية العنقاء بوجه عام يستطيع أن يلاحظ بسهولة أن الكاتبة قد تجاوزت حدود الرواية التقليدية ذات الصوت الأحادي إلى رواية ذات أصوات متعددة وهو ما يطلق عليه في النقد الأدبي مصطلح (البوليفونيا )
وهي تقنية حديثة قائمة على تعدد الرواة بدلا من راوي واحد للرواية ، فهناك أكثر من راوي وكلهم يصورون أوجاع الحياة وعذابها فهناك ( نادية) و( لبنى) ، و( منية) و(مناح) والراوي العليم.
وسوف أتناول في هذا المقال النقدي أربعة أبعاد هي:
1-اختيار العنوان.
2-تعدد الشخصيات والأصوات.
3-تعدد آليات السرد.
4-تعدد الزمن.
أولا : العنوان (العنقاء).
جاء العنوان رمزيا، وجاذبا للقارئ ،ومثيرا لفضول القارئ، حيث يجعله يطرح العديد من الأسئلة مثل: ما العنقاء؟ وما علاقة هذا العنوان بموضوع الرواية؟ وبم يرمز؟
فكأن الكاتبة تريد أن تأخذ القارئ في رحلة شيقة داخل روايتها. ليكتشف القارئ بعد ذلك أن العنقاء طائر أسطوري يلتهب جسده بالنيران ويحرق نفسه ثم يعود للحياة من جديد ليصبح رمزا للتجدد والخلود.
وهو يرمز في هذه الرواية إلى القوة والصمود التي تُولد من رحم الألم فأبطال الرواية كلهم قد تقلبوا في الألم والوجع والعذاب؛ ليصبحوا في نهاية الرواية أكثر قوة وصمود.
بوليفونية روايات منى عبد اللطيف
ثانيا: تعدد الشخصيات والأصوات.
لقد قدمت لنا الكاتبة شخصيات حية تعبر عن زمنها وظروفها كماقدمت لنا بعض الشخصيات الأسطورية المعبرة عن تناقضات الإنسان في كل عصر وجيل.
وتتوزع هذه الشخصيات إلى خمس شخصيات رئيسة هي:
أ-لبنى:
أفردت لها الكاتبة مساحة واسعة في الرواية ، فهي طالبة جامعية ، كانت ترى والديها في أحلامها بأشكال قبيحة ، ولكن ما السر في رؤية والديها بهذه البشاعة؟ هذا ما سنعرفة من خلال قراءة الرواية .
ب-حسن:
على الرغم من أن اسمه ( حسن)، لكنه فاقد لحسن الخلق ،، فما السر في ذلك؟ ، وما علاقة زواجه بهذا الأمر ؟!
ج-نادية:
أحبت ابن عمها ( حامد) لكن تُرى هل ستكلل قصتهم بالزواج؟
هذا ما سنراه في الرواية.
د-منية:
شخصية معقدة وعلى الرغم من ضآلة دورها داخل العمل إلا أن أثره ممتد للنهاية، فمن هي مُنية وما علاقتها بالعنقاء؟
ه-مناح:
شخصية أسطورية تعرضت لعدة اختبارات، من خلال شجرة أسطورية تدعى ( الحكاءة)، ولكنه هل سيتطيع أن يجتاز كل هذه الاختبارات رغم شدتها وصعوبته؟ا.
وهكذا يتضح لنا تعدد الرواة والأصوات في رواية العنقاء، فكل واحد من هؤلاء كان روايا لأحداث الرواية من منظوره الخاص ومن موقعه الزمني والمكاني، لذلك تتداخل الأزمنة والأماكن؛ لتشكل لنا رواية متعددة الرؤى والأفكار(البوليفونيا).
الراوي العليم:
وعلى الرغم من أن الكاتب قد منح كل شخصية الحرية التامة للبوح بما يدور في داخلها من مشاعر وأفكار بسبب تعدد أصوات الرواية وشخصياتها. لكن الراوي العليم يتجلى بوضوح حيث يقوم بتعريف بعض الشخصيات لنا ،أو يعلق لنا على بعض التصرفات .أو يسرد بجلاء بعض أحداث الرواية معلقا عليها وواصفا لها.
بوليفونية روايات منى عبد اللطيف
ثالثا: تعدد آليات السرد.
بالعودة إلى تقنيات السرد في رواية العنقاء للكاتبة منى عبد اللطيف نجد أن آليات السرد عندها تتسم بعدة مستويات جاءت على النحو التالي:
المستوى الأول : السرد النفسي.
وهو أحد أهم المستويات السردية التي تهتم بكل ما هو نفسي ، ويتم فيه التركيز على الشخصيلت ذات الكثافة النفسية العالية وما تعانيه من صراعات نفسية وقلق وتوتر ومعاناة.
وقد تنوعت أساليب السرد النفسي في رواية العنقاء باستخدام:
أ-الأحلام ب-المونولوج الداخلي .
ج- المونولوج الخارجي د- المكان النفسي.
أ-الأحلام:
يبين لنا الحلم حجم الاضطرابات والتشتت وعدم الاستقرار النفسي الذي تشهده الشخصية الروائية ، الأمر الذي أعجزها عن الكلام وجعل الحلم هو الملاذ الذي يخفف عن رغباتها في البوح عن مشاعرها المكبوتة ، وفي ذلك تقول الكاتبة:
” حلمت لأول مرة منذ عامين بمليك ، كنت في غرفة مظلمة سوداء ، ليس لها أرض أو سقف ، أو حوائط كلها ظلام أسود، ممدة على سرير أبيض كأسرة المستشفيات ، عارية وبطني منتفخة ، أمامي مليك يرتدي زي الأطباء…”
ب-المونولوج الداخلي (الحوار الداخلي):
يساعد الحوار الداخلي المتلقي على فهم دوافع الشخصية، وخفايا سلوكها ويكشف عن أسرارها وطبائعها، وطرق تفكيرها التي لم تفصح عنها، كما أنه يؤجج الصراع ،ويكثف الحبكة، ويعتبر وسيلة ناجحة لذكر المعلومات عن الشخصية.
ومن خير الأمثلة على هذا الحوار الداخلي قول الكاتبةعن( سيفا)
” أنا الإيجبتية ، أنا الفانية الخالدة المتجددة ، أنا المتنقلة بين العوالم ، أنا الروح الكامنة التي حين تموت في جسدك تولد من جديد، في جسد أخر، أنا التي تبصر بعين حورس، أرى الجان والأرواح ، أعلم السر والخبيئة.
ستراني طفلة حالمة منطوية لا تلعب مع الأطفال، ستراني معلمة مناضلة ، طبيبة ، سياسية، ستراني جسد أخبئ بداخلي حقيقتي ، فأنا العنقاء نقشها شعاع حورس على جسدي ليذكرني بأني بحقيقة روحي.روح العنقاء الحية التي لا تظهر إلا في وقت الخطر …”
فقد عكس لنا هذا الحوار الداخلي خبايا وأسرار شخصية (سيفا) وطرق تفكيرها ، كما ساعد على إشعال الصراع ونمَى حبكة الرواية.
ومن خير الأمثلة على الحوار الداخلي في رواية العنقاء:
قول الكاتبة عن (لبنى):” في هذه اللحظة اشتعلتُ بداخلي ماذا أفعل ؟ هل أطردهم؟ وإذا طردتهم هل سيبقي علي؟ أم سينهرني ويكسرني أمامهم؟”
هذا الحوار الداخلي الذي دار في عقل لبنى وضح لنا خفايا سلوك (لبنى) ، وما تعانيه من حيرة، ودوافعها الشخصية ،فهي تريد أن تطرد هؤلاء الضيوف الذين جرحوها بكلامهم لكنها لا تستطيع خوفا من زوجها.
ج-الحوار الخارجي:
جاء الحوار الخارجي ملائما لمستوى الشخصيات ونابعا من ذاتها وكشف لنا عن أبعادها الاجتماعية، والسياسية ،والعاطفية، وميولها، ،وشعورها. ومن نماذج الحوار الخارجي :
تحدث لها المجذوب بصوته الأجش:
-عنايات يا بنت نرجس.
فردت بصعوبة.
بسم الله الرحمن الرحيم ، أنت مين يا خويا وتعرف اسمي واسم أمي منين؟
قال لها:
-أنا المجذوب اللي هيجبلك محمد بس تنفيذي المطلوب.
فردت:
أمرك، دا يوم المنى اللي يجيلي فيه محمد وأخلص من ذل الراجل ليا لجل خلفتي اللي كلها بنات.
قال لها… .
نلاحظ أن الحوار الخارجي كشف عما يدور داخل شخصية أم محمد وعقدتها ورغبتها في إنجاب الذكر بأي شكل مهما كان الثمن.
وقد استخدمت الكاتبة اللهجة العامية في الحوارات الخاجية ؛لأنها تسهم في توصيل الرسالة للقارئ بسهولة ويسر وتعطي إحساس صادق بالواقعية والإقناع في الحديث.
د-المكان النفسي:
استخدمت الكاتبة المكان النفسي كمكون نفسي له أبعاد نفسية، قد بلورت الرواية أثر المكان على الأبعاد النفسية للشخصيات .
نجد ذلك واضحا في وصف المنزل الذي سكنته عائلة نادية في السنبلاوين ، هذا المنزل الذي يعطي إحساس بالكآبة والألم والمعاناة النفسية.
تقول الكاتبة في وصف هذا المكان:
” سكنا هناك في بيت طوبي مكون من ثلاث طوابق ، شبابيكه ذات قضبان حديدية كالسجون ، به فرن يخلو من كل شيء إلا من بعض المراتب القديمة القطنية ، فقد كان بيتا يدعو للكآبة ، منذ دخلنا هذا البيت أحسست بثقل رهيب على صدري ، وكأن المكان متجمد ليس من البرد وإنما إحساس رهيب بالجمود ، أو بالموت“
بوليفونية روايات منى عبد اللطيف
المستوى الثاني: السرد الفلسفي.
نجد امتزاج سرد الأحداث بالآراء الفلسفية ، والأفكار العميقة ، وذلك من خلال تراكيب لغوية ذات عبق فلسفي، وكذلك استخدام القصة المثيرة لانتباه القارئ فلا تجعله يشعر بأي تعب أو ملل أثناء عرض الآراء الفلسفية ومن هذه الآراء الفلسفية فكرة مقاومة الرغبات والتمسك بالضمير وبالقيم والمثل العليا، فقد عرضت كل ذلك من خلال قصة شيقة مثيرة للقارئ.
تقول الكاتبة :
” ستضعك الحكاءة في اختبارات عدة ، ستختبر إرادتك ، وضميرك ، وستضعف عزيمتك حتى تظن أنك على شفا الموت ، ستداعب رغباتك ، وتغريك حتى لا تقوى على المقاومة ، فقط من سيقاوم ويثبت على عزيمته هو من ستطلق له سرها ، وتسخر له الأسرار والأسحار النورانية”
المستوى الثالث: السرد الوصفي.
لعب السرد الوصفي دورا مهما في ررواية العنقاء ونجده واضحا دقيقا في ثنايا الرواية، ومن خير الأمثلة التي توضح قدرة السردعلى الوصف الدقيق لرغبات الإنسان قول الكاتبة :
“وعضت على شفتها السفلى وهنا وقع فك مناح من النشوة ، وتدفق لعابه أمام شفتيها الممتلئتين كالشلال.”
رابعا: تعدد وتنوع الزمن:
كان التدفق الزمني من أهم مزايا هذه الرواية ، لأنها كما قلنا رواية متعددة الأصوات ، فنجد فيها الزمن المستقبل عند الحديث عن مستقبل مصر وأنها قد تقود العالم ،والزمن الحاضر من خلال حديث الكاتبة عن بناء العاصمة الإدارية الجديدة عام 2015، ومن خلال حديثها عن فيروس كورونا والسر وراء انتشارهذا الوباء الخطير في بعض المجتمعات.
وكذلك زمن التهجير لمحافظة بورسعيد، الذي يرجع إلى عام 1967 ، وكذلك الزمن الأسطوري الذي يرجع إلى عصور سحيقة عند الحديث عن مناح وطافش.
ورغم هذا الثراء الزمني الذي تتميز به هذه الرواية، لكن الزمن جاء في خط متوازي ومتصاعد مع كل قصة ليس فيه أي ارتباك أو تفكك.
وفي النهاية أقول:
شكرا للكاتبة منى عبد اللطيف أيقونة اللباقة والاحترام. على هذه الرواية التي نسجت لنا من الأسطورة معبرا نعبرعليه إلى الحقيقة.ومن الحلم حقيقة ، ومن الحزن طريقا ممهدا بالسعادة.
شكرا للقلب المملوء بالمشاعر الرقيقة ، وللعقل الذي اتقد بالحكمة.
بوليفونية روايات منى عبد اللطيف