
الرحلة الأولى لإخوة يوسف إلى مصر:
صالح الصادق سلطان
الرحلة الأولى لإخوة يوسف إلى مصر:
ــ بعد تعيين يوسف وزيرا للمالية انتهج سياسة الاحتكار، حيث احتكر السلع الغذائية، ثم أخذ يبيع الطعام للمصريين، ومن لم يملك ثمن الطعام يترك ابنا من أبنائه عبدا يُسترقّ عند العزيز مقابل الطعام؛ ليدرك كل مواطن قيمة الطعام الذي يحصل عليه من الدولة فيحافظ عليه ويستهلك منه قدر الاحتياج، ولو كان الطعام مجانا لأسرف الناس في تناوله، وبهذه السياسة نجح يوسف في تجاوز الأزمة الاقتصادية، بل أحدث رخاء اقتصاديا في مصر، وعندئذ ردّ يوسف للمصريين كل ما أخذه من أموالهم وأبنائهم، ويُستنبَط من سياسة يوسف جواز احتكار السلع إذا كان ذلك لصالح الناس، ولا يجوز إذا كان الهدف ربحا شخصيا يضر بهم، فهل يمكن أن تفيد الحكومات المعاصرة من سياسة يوسف عليه السلام؟!
ــ ذاع صيت يوسف، فسمع به يعقوب، فأمر أولاده أن يذهبوا لمصر لشراء الطعام، قال تعالى: {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ}، ونستنبط من الآية أربعة أمور: الأول: أن سنوات القحط والجدب والمجاعة شملت بلاد الشام، والثاني: أن تلك المجاعة لم تؤثر على مصر كما أثّرت على المناطق المجاورة، وذلك بفضل سياسة يوسف المالية، والثالث: أن هذه الرحلة كانت بعد تجاوز الأزمة الاقتصادية في مصر، والرابع: أن مصر كانت محطّ أنظار المعسرين من مختلف البلاد، وهي دائما بلد عطاء، وظل الكرم المصري سائدا مع بني إسرائيل؛ حيث قال موسى لهم: {اهبطوا مصر فإن لكم ما سألتم}، لكنهم قوم لا يشكرون!
ــ ذهب الإخوة إلا بنيامين شقيق يوسف أبقاه أبوه يأنس به، وقد ذهبوا جميعا لسببين: الأول الحصول على أكبر كمية من الطعام، والثاني أن يكونوا قوة ضاربة لصدّ أي عدوان محتمل من “قطّاع الطرق” الذين كثروا آنذاك ويكثرون في كل فترة عصيبة تمرّ بها الدول والمجتمعات حينما تحدث هــزة اقتصادية تتبعها هزة أمنية، ولعل ما حدث في مصرنا عقب ثورة يناير يذكّرنا بذلك؛ وهذا ما يجعلنا نحمد الله على نعمة الأمن التي نعيشها الآن في مصرنا الحبيبة بفضل القيادة السياسية الحكيمة، ونعمة الأمن تمثل ثلث متاع الدنيا، فــ”من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه، عنده قوت يومه فقد حيزت له الدنيا”، ويُستنبط من الحديث أن كل دولة تمتلك جيشا رادعا واقتصادا زاهرا وتقدما علميا تمتلك قرارها.
ــ ولما دخل إخوة يوسف عليه عرفهم ولم يعرفوه؛ لأن ملامحهم لم تتغير كثيرا فهم كبار، لكن يوسف كان صغيرا ومـر بمراحل نمو جسدية، والإنسان تختلف ملامحه فترة نموه، فضلا عن ذلك فهو نبي عرفهم بوحي من الله، وحرص يوسف على أن لا يعرفوه، فكان يكلّمهم من بُعد، وجاء التعبير القرآني دقيقا في ذلك، فعبّر عن معرفة يوسف لهم بالجملة الفعلية للدلالة على أن المعرفة حادثة حصلت بمجرد رؤيتهم، والدليل استعمال الفاء الدالة على سرعة وقوع الحدث، وعبر عن جهلهم به بالجملة الاسمية وبلفظة الإنكار للدلالة على أمرين: أن جهلهم به أمر ثابت متمكّن منهم، ولو خُيّل لهم أنه هو لأنكروه، ولن تقبل عقولهم أن يوسف الذي رموه في الجب يكون عزيز مصر، فذلك محال بالنسبة لهم.
ــ نجح يوسف بذكاء أن يدير معهم حوارا طويلا اطمأن من خلاله على أبيه وأخيه والعائلة وكيفية معيشتهم دون أن يشعروا، نفهم ذلك من آية {ولَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ}، فهي تؤكد أن حوارا طويلا دار بينهم، عرف يوسف منه ما أراد؛ ولذلك لما طلب منهم أن يأتوه بأخيهم لم يستغربوا معرفته بالأمر؛ فهم الذين أخبروه بذلك، ثم أكرمهم يوسف وأحسن ضيافتهم، وطلب منهم أن يأتوا بأخيهم في الزيارة القادمة، ولتحقيق ذلك قام يوسف بثلاثة أشياء: الأول: رغّبهم في العطاء الوفير إذا أتوا بأخيهم {أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ}، والثاني: هددهم بالمنع إن لم يفعلوا {فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلَا تَقْرَبُونِ}، واستثمر يوسف شدة احتياجهم للطعام في الضغط عليهم، وهو ما يسمى “استثمار الموقف”!
ــ في ظل الترغيب والترهيب لم يكن أمام إخوته إلا أن {قالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ}، أي سنسلك جميع الحِيَل الممكنة لإقناع أبينا بذلك، فالمراودة هي الطلب بحيلة وخداع، وعبارة {إنا لفاعلون} تحتمل تفسيرين: التأكيد على إقناع أبيهم، أو التأكيد على الإتيان بأخيهم، أو هما معا.
ــ الشيء الثالث أن يوسف ردّ لهم ثمن الطعام دون علمهم، حيث {قَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، فبضاعتهم نقودهم، ورحالهم أمتعتهم، والغلمان شباب موظفون في الخزانة المصرية، وقد صنع يوسف ذلك لعدة أسباب: 1ــ أن يكون المال حافزا لهم على العودة مرة أخرى، 2ــ خوف يوسف من عدم وجود نقود أخرى لدى أبيه لشراء طعام مستقبلا، 3ــ التوسعة على أبيه وإخوته من المال في سنوات القحط والجدب والمجاعة، 4ــ اعتقاده بأن بيع الطعام لأبيه أمر لا يليق ولا يجوز، وهذا يذكرنا بحديث “أنت ومالك لأبيك”، فالمبادئ النبوية واحدة، 5ــ إظهار كرمه كــ(مَلِك) عند أبيه؛ فيكون حافزا له على إرسال بنيامين مع إخوته، 6ــ رغبته في الإحسان إلى إخوته مقابل إساءتهم له، وهذه قاعدة سماوية تذكّرنا بقوله تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن السيِّئة}، 7ــ لعل إخوته يعتقدون أن المال وُضِع في أمتعتهم على سبيل الخطأ، وهم أبناء أنبياء لا يقبلون الحرام ولا يأكلون السحت، فيضطرون إلى العودة لردّ المال للعزيز.
ــ رجع الإخوة إلى أبيهم، وقبل أن يفتحوا متاعهم دار حوار بينهم وبين أبيهم عن الرحلة التقط منه القرآن ثلاث عبارات في قوله: {فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَىٰ أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ}، لكن هل مُنعُوا الكيلَ حقا؟! بالعكس يوسف وفّى لهم الكيل، فلماذا قالوا ذلك؟ هناك تفسيران: الأول أن الكيل الممنوع هو كيل أبيهم وأخيهم بنيامين، إذ طلبوا من يوسف ذلك فرفض من أجل أن يعودوا إليه بأخيهم، والثاني: أن مقصودهم بالكيل الممنوع كيل المرة القادمة حال رفض أبيهم إرسال بنيامين معهم، وعبّروا عن ذلك بالفعل الماضي للتأكيد؛ لأن قرارات الملوك نافذة؛ لذلك ربطوا العطاء بإرسال أخيهم، قالوا: {فأرسل معنا أخانا نكتل}، ثم أكدوا لأبيهم حفظهم لأخيهم {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.
ــ ماذا كان ردّ يعقوب عليهم؟ ذكّرهم بيوسف، {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَىٰ أَخِيهِ مِن قَبْلُ}، أي قلتم مثل ذلك مع يوسف وضيّعتموه، فكيف أطمئن على حفظ بنيامين معكم؟! ثم فوض الأمر إلى الله مع ثقته فيه، قال: {فالله خير حافظا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}، و{لَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ}، وجدوا الطعام والنقود معا، فتعجبوا من كرم يوسف، فحفّزوا أباهم على إرسال بنيامين معهم، {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَٰذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَٰلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ}، وجملة {ما نبغي} استفهامية أو نافية، والمعنى ماذا نريد أكثر مما أعطانا العزيز؟ أو لا نريد أكثر مما أعطانا العزيز، فإذا أرسلت معنا أخانا نحفظه ويزيدنا العزيز الكيل، وهو أمر سهل عليه، فوافق الأب مشترطا عليهم أن يعاهدوه أمام الله بإرجاع بنيامين إليه، إلا إذا باغتهم عدوّ غاشم فأحاط بهم فقاتلوه فقتلهم جميعا؛ حيث {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّىٰ تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَن يُحَاطَ بِكُمْ}، فعاهدوه، فوافق متوكلا على الله، قال تعالى: {فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}،
ــ بعد تعيين يوسف وزيرا للمالية انتهج سياسة الاحتكار، حيث احتكر السلع الغذائية، ثم أخذ يبيع الطعام للمصريين، ومن لم يملك ثمن الطعام يترك ابنا من أبنائه عبدا يُسترقّ عند العزيز مقابل الطعام؛ ليدرك كل مواطن قيمة الطعام الذي يحصل عليه من الدولة فيحافظ عليه ويستهلك منه قدر الاحتياج، ولو كان الطعام مجانا لأسرف الناس في تناوله، وبهذه السياسة نجح يوسف في تجاوز الأزمة الاقتصادية، بل أحدث رخاء اقتصاديا في مصر، وعندئذ ردّ يوسف للمصريين كل ما أخذه من أموالهم وأبنائهم، ويُستنبَط من سياسة يوسف جواز احتكار السلع إذا كان ذلك لصالح الناس، ولا يجوز إذا كان الهدف ربحا شخصيا يضر بهم، فهل يمكن أن تفيد الحكومات المعاصرة من سياسة يوسف عليه السلام؟!
ــ ذاع صيت يوسف، فسمع به يعقوب، فأمر أولاده أن يذهبوا لمصر لشراء الطعام، قال تعالى: {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ}، ونستنبط من الآية أربعة أمور: الأول: أن سنوات القحط والجدب والمجاعة شملت بلاد الشام، والثاني: أن تلك المجاعة لم تؤثر على مصر كما أثّرت على المناطق المجاورة، وذلك بفضل سياسة يوسف المالية، والثالث: أن هذه الرحلة كانت بعد تجاوز الأزمة الاقتصادية في مصر، والرابع: أن مصر كانت محطّ أنظار المعسرين من مختلف البلاد، وهي دائما بلد عطاء، وظل الكرم المصري سائدا مع بني إسرائيل؛ حيث قال موسى لهم: {اهبطوا مصر فإن لكم ما سألتم}، لكنهم قوم لا يشكرون!
ــ ذهب الإخوة إلا بنيامين شقيق يوسف أبقاه أبوه يأنس به، وقد ذهبوا جميعا لسببين: الأول الحصول على أكبر كمية من الطعام، والثاني أن يكونوا قوة ضاربة لصدّ أي عدوان محتمل من “قطّاع الطرق” الذين كثروا آنذاك ويكثرون في كل فترة عصيبة تمرّ بها الدول والمجتمعات حينما تحدث هــزة اقتصادية تتبعها هزة أمنية، ولعل ما حدث في مصرنا عقب ثورة يناير يذكّرنا بذلك؛ وهذا ما يجعلنا نحمد الله على نعمة الأمن التي نعيشها الآن في مصرنا الحبيبة بفضل القيادة السياسية الحكيمة، ونعمة الأمن تمثل ثلث متاع الدنيا، فــ”من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه، عنده قوت يومه فقد حيزت له الدنيا”، ويُستنبط من الحديث أن كل دولة تمتلك جيشا رادعا واقتصادا زاهرا وتقدما علميا تمتلك قرارها.
ــ ولما دخل إخوة يوسف عليه عرفهم ولم يعرفوه؛ لأن ملامحهم لم تتغير كثيرا فهم كبار، لكن يوسف كان صغيرا ومـر بمراحل نمو جسدية، والإنسان تختلف ملامحه فترة نموه، فضلا عن ذلك فهو نبي عرفهم بوحي من الله، وحرص يوسف على أن لا يعرفوه، فكان يكلّمهم من بُعد، وجاء التعبير القرآني دقيقا في ذلك، فعبّر عن معرفة يوسف لهم بالجملة الفعلية للدلالة على أن المعرفة حادثة حصلت بمجرد رؤيتهم، والدليل استعمال الفاء الدالة على سرعة وقوع الحدث، وعبر عن جهلهم به بالجملة الاسمية وبلفظة الإنكار للدلالة على أمرين: أن جهلهم به أمر ثابت متمكّن منهم، ولو خُيّل لهم أنه هو لأنكروه، ولن تقبل عقولهم أن يوسف الذي رموه في الجب يكون عزيز مصر، فذلك محال بالنسبة لهم.
ــ نجح يوسف بذكاء أن يدير معهم حوارا طويلا اطمأن من خلاله على أبيه وأخيه والعائلة وكيفية معيشتهم دون أن يشعروا، نفهم ذلك من آية {ولَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ}، فهي تؤكد أن حوارا طويلا دار بينهم، عرف يوسف منه ما أراد؛ ولذلك لما طلب منهم أن يأتوه بأخيهم لم يستغربوا معرفته بالأمر؛ فهم الذين أخبروه بذلك، ثم أكرمهم يوسف وأحسن ضيافتهم، وطلب منهم أن يأتوا بأخيهم في الزيارة القادمة، ولتحقيق ذلك قام يوسف بثلاثة أشياء: الأول: رغّبهم في العطاء الوفير إذا أتوا بأخيهم {أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ}، والثاني: هددهم بالمنع إن لم يفعلوا {فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلَا تَقْرَبُونِ}، واستثمر يوسف شدة احتياجهم للطعام في الضغط عليهم، وهو ما يسمى “استثمار الموقف”!
ــ في ظل الترغيب والترهيب لم يكن أمام إخوته إلا أن {قالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ}، أي سنسلك جميع الحِيَل الممكنة لإقناع أبينا بذلك، فالمراودة هي الطلب بحيلة وخداع، وعبارة {إنا لفاعلون} تحتمل تفسيرين: التأكيد على إقناع أبيهم، أو التأكيد على الإتيان بأخيهم، أو هما معا.
ــ الشيء الثالث أن يوسف ردّ لهم ثمن الطعام دون علمهم، حيث {قَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، فبضاعتهم نقودهم، ورحالهم أمتعتهم، والغلمان شباب موظفون في الخزانة المصرية، وقد صنع يوسف ذلك لعدة أسباب: 1ــ أن يكون المال حافزا لهم على العودة مرة أخرى، 2ــ خوف يوسف من عدم وجود نقود أخرى لدى أبيه لشراء طعام مستقبلا، 3ــ التوسعة على أبيه وإخوته من المال في سنوات القحط والجدب والمجاعة، 4ــ اعتقاده بأن بيع الطعام لأبيه أمر لا يليق ولا يجوز، وهذا يذكرنا بحديث “أنت ومالك لأبيك”، فالمبادئ النبوية واحدة، 5ــ إظهار كرمه كــ(مَلِك) عند أبيه؛ فيكون حافزا له على إرسال بنيامين مع إخوته، 6ــ رغبته في الإحسان إلى إخوته مقابل إساءتهم له، وهذه قاعدة سماوية تذكّرنا بقوله تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن السيِّئة}، 7ــ لعل إخوته يعتقدون أن المال وُضِع في أمتعتهم على سبيل الخطأ، وهم أبناء أنبياء لا يقبلون الحرام ولا يأكلون السحت، فيضطرون إلى العودة لردّ المال للعزيز.
ــ رجع الإخوة إلى أبيهم، وقبل أن يفتحوا متاعهم دار حوار بينهم وبين أبيهم عن الرحلة التقط منه القرآن ثلاث عبارات في قوله: {فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَىٰ أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ}، لكن هل مُنعُوا الكيلَ حقا؟! بالعكس يوسف وفّى لهم الكيل، فلماذا قالوا ذلك؟ هناك تفسيران: الأول أن الكيل الممنوع هو كيل أبيهم وأخيهم بنيامين، إذ طلبوا من يوسف ذلك فرفض من أجل أن يعودوا إليه بأخيهم، والثاني: أن مقصودهم بالكيل الممنوع كيل المرة القادمة حال رفض أبيهم إرسال بنيامين معهم، وعبّروا عن ذلك بالفعل الماضي للتأكيد؛ لأن قرارات الملوك نافذة؛ لذلك ربطوا العطاء بإرسال أخيهم، قالوا: {فأرسل معنا أخانا نكتل}، ثم أكدوا لأبيهم حفظهم لأخيهم {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.
ــ ماذا كان ردّ يعقوب عليهم؟ ذكّرهم بيوسف، {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَىٰ أَخِيهِ مِن قَبْلُ}، أي قلتم مثل ذلك مع يوسف وضيّعتموه، فكيف أطمئن على حفظ بنيامين معكم؟! ثم فوض الأمر إلى الله مع ثقته فيه، قال: {فالله خير حافظا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}، و{لَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ}، وجدوا الطعام والنقود معا، فتعجبوا من كرم يوسف، فحفّزوا أباهم على إرسال بنيامين معهم، {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَٰذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَٰلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ}، وجملة {ما نبغي} استفهامية أو نافية، والمعنى ماذا نريد أكثر مما أعطانا العزيز؟ أو لا نريد أكثر مما أعطانا العزيز، فإذا أرسلت معنا أخانا نحفظه ويزيدنا العزيز الكيل، وهو أمر سهل عليه، فوافق الأب مشترطا عليهم أن يعاهدوه أمام الله بإرجاع بنيامين إليه، إلا إذا باغتهم عدوّ غاشم فأحاط بهم فقاتلوه فقتلهم جميعا؛ حيث {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّىٰ تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَن يُحَاطَ بِكُمْ}، فعاهدوه، فوافق متوكلا على الله، قال تعالى: {فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}،
الرحلة الأولى لإخوة يوسف إلى مصر:
مقالات ذات صلة
- قصيدة / بيانو21 أبريل، 2025
- مصيدة..21 أبريل، 2025