مقالات

التربية، من الاستمتاع الفكري… إلى جرأة التحويل…

التربية، من الاستمتاع الفكري... إلى جرأة التحويل...

كتب كمال الحجام
موازنات:

لا شكّ أن تعدّد أوجه النظر المتعلقة بالتربية في مجتمع ما دليل فاصل للأهمية التي يوليها التربويون عامة لهذا القطاع الحيوي، ولا شكّ أيضا أن اختلاف وجهات النظر منهجيا ومضمونيا إشارة هامة لثراء المسائل التربوية وقابليتها للطرح المتعدد سيما عندما يتعلق الأمر بتدقيق واقعها واستشراف مستقبلها، كما لا شكّ أيضا أن هذه الآراء المتعددة تستمد مشروعيتها من طبيعة وقائع التربية وممّا يمكن أن تحمله من حلول بديلة وطريفة قد تنبثق عن كلّ ذات مفكّرة وظفت جهودها بما تقتضيه النزاهة الفكرية في هذا المجال الإنساني.

واعتمادا على خيار التفكير المتعدد في المسألة التربوية، يجدر التذكير في تقديري بأن الطرح الفكري للقضايا التربوية في إطار رؤية تحويلية يفترض أن تتجاوز مجرّد التفكير الذي قد ينتج استمتاعا فكريا فحسب للمرور وجوبا إلى تغيير الواقع التربوي نحو الأفضل ومنهجية تفعيله. ونحن بهذا المعنى نستقرأ المسألة التربوية في مجتمعنا بمعني فن الخبرة (إمانويل كانط)، الذي يمثل الخطوة العملية لحركة التحويل.

فالوقائع التربوية في مجملها من خلال هذه النظرة تصبح خاضعة لقوانين العقل وقابلة للتساؤل النقدي المبني على فكرتي المعقولية والغائية اللتان تيسّران الأسئلة المستعصية على الفهم المعمّق وتفتح مجال التأمل الواسع لمستقبل المجتمعات الإنسانية ودلالاته التاريخية والحضارية وتبني مسعى الكرامة الإنسانية للفرد وتنحت رهان السلام العالمي للمجتمع الدولي.

ووفقا لهذا لا نخال التفكير في المسألة التربوية ييتوقف على مجرّد تطبيق قواعد محدّدة لحلّ مشاكل كما تزعم العلوم المطبّقة، ذلك لأن التّأكيد على التّطبيق الآلي للمعرفة النظرية، على قيمتها، يمكن أن تهمل ما يوفّره الواقع التربوي من فرص لبناء المشاكل وطرحها للدّراسة. فالإشكاليات التربوية في الواقع لا تطرح نفسها على المجتمعات المعرفية، بل تبنى من خلال مواجهة الواقع وتوظيف العمل الذهني بما يفضي إلى إعطاء معنى للمسائل المطروحة التي تكون في المنطلق خالية من كل دلالة.

إن المتأمّل في المسألة التربوية يتفطّن بسرعة أن تطبيق النّظريّات والتّقنيات على وقائع تربوية معيّنة لا يفي في الغالب بالحاجة، ويدرك بذلك أن الوقائع التربوية في أغلبها متجدّدة ومتغيّرة وفريدة، وهي للغرض نفسه لا تخضع للحلول المعدّة مسبقا وترفض القواعد المطلقة وتفلت من كل نمذجة مسبقة.

إن الوقائع التربوية تتميّز بالتفرّد والتّجدّد والتّركيب والتّعقيد. فما بين المعرفة الأكاديميّة المتقاربة والمنتجة للقواعد المطلقة والوقائع التربوية التي تجد معانيها في سياقاتها المخصوصة تتطلب “التّفكير المتباعد” (Schein, 1973). ولهذا السبب ذاته، لا نخال التحويل التربوي يمكن أن يحدث انطلاقا من تطبيق نظريّات منبثقة عن بحوث جاهزة، بل ببناء نماذج تفكير جديدة مخصوصة تستهدف البحث الواعي للتحويل ولإنتاج معرفة مخصوصة بسياقات متغيّرة.

بهذا أيضا يمكننا القول أن تحويل التعليم لا يختزل في مجرّد نقل الخيارات الدولية ولا في نقل التجارب الدولية ومحاولة تطبيقها، بل يتطلب وجوبا استشرافا مستقبليا مخصوصا تميزه متغيراته الثقافية والتاريخية والاقتصادية والاجتماعية. ومن هذا المنطلق يصبح التحويل التربوي الناجح فعلا يمارس على سياق مخصوص وفريد وعلى تفاعل هذا السياق مع النماذج المعروضة عليه. وهو يفضي في تقديرنا إلى تفاعل جدلي بين الواقع والمجلوب التجديدي يمرّ وجوبا بحركات ارتدادية متعددة يفترض الانتباه إليها لنجاح عمليتي التمثل والملاءمة بينهما.

ضمن هذا التفاعل الجدلي المزدوج يندرج كل تحويل تربوي، فالتحويل في التعليم عملية عقلانيّة لأنّها تخضع الواقع للتّفكير والتّنظيم، وهو عملية ميدانية متأمّلة باعتبار ما يتيحه الواقع من فرص التّفكير في المنجز وتعديله. إنّنا بهذا المعنى ندرك التحويل على أنه جهد انساني هادف يعيد بناء الواقع التربوي ولا يكتفي بالاستمتاع الفكري حوله.

د/ كمال الحجام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار