أدب
الأنا في صراع القارئ والكاتب
الأنا في صراع القارئ والكاتب
بقلم: أحمد النحاس … مدير عام جريدة مصر اليوم نيوز
ذات غفوة استوقفني هذا الشخص الذي لا يسكن أبدًا في رأسي، يشبهني كثيرًا في هيئته الحالمة والمزعجة، القارئ في داخلي قال: تكتب؟
قلت: أجل، أكتب قصة.
قال: ما الذي أهلك لتكون كاتبًا وإلى أي مدى ستستمر؟
قلت: فقط أكتب ولم أنظر أبدًا للمدى.
قال: ستسقط حتمًا في حفرة المكتوب وتغتالك الحقيقة وتلعنك ذاكرة حروفك المصورة، أريدك كاتبًا يجيد الاستماع أولًا قبل أن يجيد الكتابة، الاستماع إلى هذا الصوت الخفيض الذي يصدره وقع التقاء القلم بالورقة، هذا الاحتكاك الناعم المتناغم الذي يرسم على الأسطر أنهارًا عذبة ومروجًا خضراء وأسماكًا ملونة وغير ملونة وجيادًا تركض بلا وجهة وأشعة ذهبية تخترق صدر الحبر الأسود فتطرد منه فلول الظلام وتحول النزف إلى كلمات من نور خالص.
قلت: كيف أحقق ذلك؟
قال: عليك بالقراءة وترويض الأبجدية التي تركض في عقلك كالأمهار المجنونة وتعلمها كيف تسير بسلاسة على الأسطر المستقيمة ملتزمة بعلامات الطريق، كن معطاءً لا تبخل، جسورًا لا تتردد، مغامرًا لا هَيَّابًا، سهلًا كالماء، سريعًا كالريح، حادًا كالغضب، رقيقًا كالابتسامة، خفيًا كالقدر، بطلًا له من الأسماء ما شاء ومن الممالك ما شاء ومن نفسه كلها.
قاطعته: ما الكتاب الذي تريد أن تقرأه؟
قال: أريد أن أقرأ كتابًا يستحضر داخلي روح العظمة كأنه كُتب خصيصًا لي، كأن اللحظة التي ولد فيها كاتبه كانت معجزة إلهية لن تتكرر، أريد أن أقرأ كتابًا حينما أطرق بابه وأدخل بقدمي اليمنى أسقط مباشرة على وسائد حريرية وريش، أشاهد الأحداث وأتشاركها وبينما أقرأ لا أجد تكلفًا ولا لغة ركيكة ولا حوارًا مبتذلًا ولا مشاهد جنسية ولا مواضيعًا مستهلكة، أريد عربية فصيحة تذوب في فمي كما تذوب قطعة حلوى في فم طفل، لتتحول رغبتي في امتلاك كتاب كرغبة فقير أرهقه الجوع في امتلاك رغيف خبز بداخله شطيرة لحمٍ، يحتضنه قليلًا بشوقٍ ويبتسم ابتسامة رضًا قبل أن يأكله، كرغبة بيدق في عبور طاولة الشطرنج والترقي عند خط النهاية لرتبة قد تعطي الأمل لملكته في النجاة وربما الفوز، كرغبة حبيبين التقت عيونهما صدفة فعلقتا هناك على مسافة من خطٍ طوليٍ لا تقطعه خطوط عرضية تمنعهما من أن يتشاركان قبلة رومانسية.
قاطعته متسائلًا: هل هناك من يستطيع أن يكتب بهذا الشكل، ربما أحلم، يا هذا اخرج من رأسي.
زجرني قائلًا: أجل هناك من يستطيع أن يكتب هكذا، تستطيع أن تكتب هكذا وإلا لا تكتب، توقف إلى الأبد ورحل غاضبًا.
أفقت من غفوتي وصدى كلماته يجلجل في رأسي، دوَّنت ما دار بيننا من حوار ووجدت أننا نحتاج إلى الكثير من الوقت والجهد لنصبح كُتابًا كما يجب وكم أننا فقراء لنصبح طيورًا تحلق في سماء الكتابة بإبداع وألق.
الحقيقة مع الأسف كلنا ينهب ميراثه من التراث حتى تهلهل، وظل السؤال الكبير متى نصنع بأنفسنا تراثًا أدبيًا يليق بنا؟
تابعنا على جوجل نيوز