لقد كان قبل بعثة النبي المختار سيد العالم أجمعين رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، ظلم واستعباد، وإزهاق وإرهاق، وحروب ومناضلات، ووأد للبنات وظلام وجهالة، وأوثان وضلالة وتشتت وانخذال، وتفارق واضمحلال، فكانت الرحمة تبكي، والفضيلة تئن، والعدل ينادي بأعلى صوته واغوثاه، أين أنت أيها المنقذ؟ إليّ إليّ خلصني من براثن الظالمين وجور الجائرين، والإنسانية ترزح تحت نير الجور والاضطهاد، وتئن من آلام جرحها الدامي الذي لا يندمل، وتنادي طبيبها الماهر وجراحها النطاسي، وما هي إلا لمحة قصيرة وما هي إلا لفتة يسيرة وإذا الكون قد ساد فيه فرح وسرور وإذا البسيطة قد انتشرت فيها الغبطة والحبور، وإذا السلام رافع لواءه، وإذا الإنسانية تردد التهاني بخلاص الكون من غوغائه وضوضائه.
وبانتهاء ظلامه وظهور ضيائه، وإذا موسيقى الكون تعزف بأنغامها الروحية الشجية، وإذا تلاميذ السلام تترنم بنشيد الحرية، ماذا حدث ماذا كان ما هذا الانقلاب الفجائي الذي لم تكن سرعته لتخطر على بال؟ فلقد ولد رسول الرحمة صلي الله عليه وسلم فولد منقذ الإنسانية والفضيلة، وولد ناشر لواء العدل، وولد ماحي الظلم والاستعباد، وولد بدر هذا الكون، فولد الهدى فالكائنات ضياء، وفم الزمان تبسم وثناء، ولقد دعانا النبي المصطفي إلي مكارم الأخلاق في كل شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم” من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت” وقال معاذ بن جبل رضى الله عنه، يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم”يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم”
أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟” وفي الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم” إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يتبين فيها، يعني ما يتثبت فيها، يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يتبين فيها، يكتب الله له بها رضاه” وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة” ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم”خير الأصحاب خيرهم لصاحبه، وخير الجيران خيرهم لجاره” وفي ذلك الحديث بيان لأهمية الاحسان إلى الجار ومعاملته بالمعروف، ولقد عُنى الإسلام بالأخلاق منذ بزوغ فجره وإشراقة شمسه، فالقرآن الكريم في عهديه المكي والمدني على السواء اعتنى اعتناء كامل بجانب الأخلاق.
مما جعلها تتبوأ مكانة رفيعة بين تعاليمه وتشريعاته، حتى إن المتأمل في القرآن الكريم يستطيع وصفه بأنه كتاب خلق عظيم، وإن الدين الاسلامي يقوم على أربعة أصول وهي الإيمان والأخلاق، والعبادات والمعاملات ولذلك فللأخلاق منزلة عظيمة في الدين الاسلامي، ولها مكانة جليلة، لأنها أحد أركانه، وأصوله الاساسية، فكان من أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يعامل برحمة الكبير والصغير، والمؤمن والمشرك، بل لقد رحم أعداءه، فما دعا عليهم، بل كان يحتمل أذاهم، ويرجو صلاحهم، ويدعو لهم قائلا ” اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون” ويعقب القاضي عياض على هذا القول، فيقول انظر إلى هذا القول من جماع الفضل ودرجات الإحسان، وحُسن الخلق، وكرم النفس.
وغاية الصبر والحلم إذ لَم يسكت عن قومه وقد فعلوا به ما فعلوا، بل عفا عنهم وزادهم، فأشفق عليهم حيث رحمهم ودعا لهم، فقال ” اللهم اغفر ” ثم بيّن سبب الشفقة والرحمة، فقال “لقومي” ثم اعتذر عن جهلهم معه، فقال “فإنهم لا يعلمون”.